أخبارالدول العربيةشؤون سياسيةفلسطين

أسرلة المناهج في القدس “تحدٍ وجوديّ”

إعداد: أ. أنوار حمدالله قدح[1]

مقدمة:
تتدحرج عجلة الأسرلة في مدينة القدس على نحو متسارع وغير مسبوق، مستغلين في ذلك حالة الإرهاب والتنكيل التي تمارسها السلطات الإسرائيلية بعد أحداث 2023/10/7 ضدّ كلّ ما لا يتوافق والرؤية الإسرائيلية، وقد نال قطاع التعليم في شرقي القدس نصيبه من ذلك، لا سيّما مع انتهاء خطة التطوير الخمسية لشرقي القدس (2023-2018)، والشروع في تنفيذ الخطة الخمسية اللاحقة (2028-2023).

وكان من أبرز أهداف الخطة الأولى أسرلة التعليم بنسبة 90%؛ في حين فشلت خططها المتتالية في تحويل الطلبة المقدسيين نحو نظام التعليم الإسرائيلي “البجروت Bagrut”، وبقيت أفضل نسبة وصلت لها هي 21% في العام 2020/2019، فكان الوصول لهدفها عبر ذاك الطريق مستحيلاً؛ لذا قررت تغيير استراتيجياتها بجعل المنهاج الفلسطيني المحرّف لا يقل خطورة عن المنهاج الإسرائيلي نفسه، وفرضته على مدارس البلدية والخاصة على حدّ سواء، كما أبدت في السنتين الأخيرتين تشديداً غير مسبوق في تتبع المناهج المعتمدة في مدارس شرقي القدس.

تكمن أهمية دراسة موضوع تحريف المناهج في القدس من حيث تسارع عملية التحريف وتجددها كماً ونوعاً، وعلى الرغم من ذلك فإن الكثير من أولياء الأمور والمعلمين والمؤسسات الحقوقية ما زالوا غير مدركين لحجم التوغل والخطر الذي باتت عليه المناهج المحرفّة هذا العام 2024/2023.

وفي الوقت الذي نجد فيه الكثيرين يعارضون المنهاج الإسرائيلي ويحاربونه لا نجدهم يتعاملون بذات الحزم مع المنهاج المحرّف، على الرغم من أننا وإن كنا نتحدث قبل 2018 عن أن تحريف المناهج كان يأتي عادةً على شكل طمس بعض النصوص أو استبدالها بأخرى لا علاقة لها بالوطن أو الإنتماء وفرضها على مدارس البلدية، غير أن التحريف بعدها بات أكثر احترافية ومجاهراً برسالة الأسرلة، كأن تتحدث النصوص عن “”إسرائيل وطني الكبير”، حيث العرب واليهود جيران يساعد كل منهم الآخر”، واستخدام المصطلحات اليهودية للأماكن بجانب العربية تمهيداً لاستبدالها بالكامل مثل فلسطين و”إسرائيل”، والقدس وأورشليم، مما يوجِد إرباكاً في هوية الطالب، ويشوّه انتماءه وذاكرته الجمعية حول وطنه. كما أن خطورة المنهاج المحرّف تكمن أيضاً في سعة انتشاره، إذ يُفرَض هذا المنهاج في كل مدارس البلدية ما عدا تلك التي تُدرّس المنهاج الإسرائيلي، كما أن الاستطلاعات الأولية تُظهر نجاح الأمر ذاته مع جُلّ المدارس الخاصة في العام الدراسي 2024/2023، وهذا يعني أن ما يقارب 90% من الطلبة المقدسيين هم عرضة لخطر استهداف هويتهم الوطنية، وتمرير خطط الأسرلة عبرهم.

تطرح الدراسة مجموعة من التساؤلات التي تُشكِّل في مجملها إشكالات الدراسة؛ ما هي غاية المؤسسة الإسرائيلية من فرض مناهجها أو تحريف المناهج الفلسطينية في القدس؟ وما هي الخطط والاستراتيجيات التي تتّبعها المؤسسة الإسرائيلية لإجبار المدارس في القدس على الرضوخ لسياستها؟ ما هو تأثير صعود اليمين الإسرائيلي في تسارع عملية الأسرلة؟ ثم كيف تعاملت المدارس العربية في القدس ومن ورائها اتحاد أولياء أمور شرقي القدس ووزارة التربية والتعليم الفلسطينية مع الممارسات الإسرائيلية المستمرة لأسرلة المناهج الفلسطينية وتفريغها من مضمونها الوطني؟ وكيف أثَّر الإرهاب الإسرائيلي الذي رافق حرب طوفان الأقصى على وتيرة النشاط المقدسي ضدّ المنهاج المحرّف؟

سيتم تفسير ما تتوصل إليه الدراسة ضمن الإطار النظري لنظرية الذاكرة الجمعيّة التي يفسر فيها موريس هالبواكس Maurice Halbwachs، فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي معروف بتطوير مفهوم الذاكرة الجمعية، الذاكرة بأنها ظاهرة مجتمعية وثقافية، بالتالي تأتي الهوية والثقافة كنتيجة لفهم الذات وامتلاك جمعيّ للماضي وليس كنتاج للوراثة البيولوجية. وكذلك الإطار النظري لبولو فريري Paulo Freire في تعليم المقهورين، والذي يرى أن التعليم يستخدم من قِبل الأنظمة المتسلطة لصهر الأجيال الجديدة في بوتقة النظام السياسي والنسق الاجتماعي، ويقول “لا يوجد شيء اسمه عملية تعليم محايدة، فالتعليم إما أن يتحول إلى أداة تصهر الأجيال الصغيرة في النظام الحالي وتؤدي إلى الانصياع له، أو يصبح أداة لـ”ممارسة الحرية”، إنها الوسيلة التي من خلالها يتمكن الرجال والنساء من التعامل بشكل انتقادي وخلّاق مع الواقع، ويكتشفون كيف يمكنهم المساهمة في تحرير مجتمعهم”.

كلمات مفتاحية: أسرلة – تحريف – خطة خمسية – مناهج – ذاكرة جمعيّة

أولاً: التعليم في القدس… كيف آل إلى ما هو عليه؟

تسببت النكبة سنة 1948 بانشطار مدينة القدس إلى قسمين، فوقع الجزء الغربيّ منها تحت السيطرة الإسرائيلية، في حين دُمج الشطر الشرقي وباقي الضفة الغربية مع المملكة الأردنية الهاشمية، وقد أُنشئ خلال العهد الأردني (1967-1948) عدة مدارس؛ مما نتج عنه ارتفاع نسبة الملتحقين بالمدارس لتصل إلى 87% ممن هم في أعمار الدراسة. كما وفرت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) United Nations Relief and Works Agency for Palestine Refugees in the Near East (UNRWA) التي تأسست سنة 1950 تعليماً مدته 9 سنوات للأطفال المسجلين كلاجئين.

بدأ الإختراق الإسرائيلي للمناهج في القدس منذ لحظات الاحتلال الأولى في سنة 1967، حين احتلت “إسرائيل” الجزء الشرقي من المدينة والذي كان ضمن السيطرة الأردنية، فألغت سلطات الاحتلال العمل بقانون التعليم الأردني، ووضعت التعليم الابتدائي تحت رقابة وزارة المعارف الإسرائيلية، والتعليم الثانوي تحت رقابة بلدية القدس الإسرائيلية. كما أغلقت مكتب التربية والتعليم في محافظة القدس، واعتقلت العديد من مسؤولي التربية والتعليم، وفرضت المنهاج الإسرائيلي في المدارس، غير أن صمود الأهالي وعزوفهم عن إرسال أبنائهم جعل وزارة المعارف تتراجع بعد أن بدت المدارس التابعة لها خالية من الطلاب. ولتجنب تكرار تلك المجابهة، عمدت سلطة المعارف على الإبقاء على المنهاج الأردني في المدارس مع إجراء عمليات شطب طفيفة، مسَّت ما له علاقة بالجهاد والاستشهاد والغلاف الخارجي للكتاب.[2]

بقي الوضع على ما هو عليه، واتسمت تلك الفترة بتهميش النظام التعليمي وإهماله، استمرّ ذلك الوضع حتى بداية القرن الواحد والعشرين، حين بدأت المعارف باختراق المدارس الخاصة عبر عرض تمويل غير مشروط على تلك المدارس، وقد كان هذا هو الشرك الكبير الذي وقعت فيه المدارس الخاصة، وقد شجعهم في ذلك أن التمويل في البداية لم يكن مشروطاً، وأن جزء من هذه الأمول دفعت مقابل كل طالب؛ كجزء من حلّ الحكومة لمشكلة الإقتظاظ. ثم مع تصاعد اليمين وظهور دراسات إسرائيلية عديدة اتهمت المنهاج الفلسطيني بالتحريضي، ظهرت دعوات من رجال الكنيست بإعادة النظر في المنهاج الفلسطيني المعتمد في مدارس القدس، مطالبة الحكومة بعدم تمويل تلك المدارس، وبناءً على ذلك بوشر العمل على تحريف المنهاج، فكانت عملية تحريف المنهاج في البداية تدريجيّة ومتأنية، وكذلك كان تطبيقها تدريجياً، وبالرغم من أن وزارة المعارف فرضت المنهاج المحرّف سنة 2011، وبعثت بكتب للمدارس الخاصة مطالبة إياها باستلام الكتب من البلدية فقط،[3] غير أنها كانت تتغاضى عن متابعة ذلك الأمر، فاستمرّت المدارس الخاصة في تعليم المنهاج الأصلي في مدارسها، وكذا الأمر كان في غالبية مدارس البلدية، فهي وإن كانت تستلم المناهج المحرّفة من البلدية فإنها كان توّفر المنهاج الأصلي وتدرّسه لطلابها. ثم طرأ تغيّر ملحوظ في فترة تولي نفتالي بينيت Naftali Bennett لوزارة المعارف إذ ربط صراحة بين التمويل وتدريس المنهاج الإسرائيلي، فأعلن “بأن حكومته لن تستثمر في مدارس القدس الشرقية إلا إذا تبنت المنهاج الإسرائيلي”.[4] كما واصلت الجهات الرسمية الإسرائيلية وضع الخطط غير يائسة من تدنّي نسبة الطلبة الفلسطينيين الذين يدرسون البجروت، فمع بداية العام الدراسي 2017/2016، أعلنت وزارة التعليم الإسرائيلية عن “خطة تشجيع وتوسيع تطبيق المنهاج الإسرائيلي في شرق القدس”، تنصّ هذه الخطة على تقديم ميزانيات إضافية لكل مدرسة تُعلّم فعليّاً المنهاج الإسرائيلي، ولو بشكل جزئي، أو مستعدّة لإدخاله في صفوفها، في الوقت ذاته شهد المنهاج الفلسطيني تدرّجاً في تحريفه وفرضه على المدارس. وما بدأ بإغراء وترغيب انتهى بتهديد صريح بإيقاف التمويل وسحب التراخيص؛ كما حصل مع مدارس الإيمان والمدرسة الإبراهيمية في العام الدراسي 2023/2022، وهما من أهم مدارس القدس العريقة، ويصل تعداد طلابهما قرابة 3,200 طالب وطالبة.

ولتعزيز مسار الأسرلة أُقرّت الخطة الخمسيّة 3970 خلال الفترة 2023-2018، وبنت عليها الخطة الخمسيّة التالية 550 خلال الفترة 2028-2023، وهما أكبر خطتان تستهدفان شرقي القدس؛ ظاهرهما تطوير شرقي المدينة وتقليل الفجوات الاجتماعية والاقتصادية بين شطري المدينة، وباطنهما اختراق البنية الديموجرافية والجغرافية والاقتصادية والثقافية للمدينة، وقد حظيَ قطاع التعليم والتعليم العالي على اهتمام خاص في كلتا الخطتين، فبلغ تمويل التعليم في الخطة الأولى 445 مليون شيكل (نحو 120 مليون دولار)، ومن ثم ارتفع إلى ما يقارب الضعف في الخطة الثانية، 800 مليون شيكل (نحو 216 مليون دولار)، وقد وزّعت على تعزيز المنهاج الإسرائيلي في المدارس، وتعليم اللغة العبريّة، والأنشطة اللا منهجيّة، والتعليم العالي، غير أن بند التعليم العالي شطب من الخطة الأخيرة بسبب اعتراض بتسلئيل سموتريتش Bezalel Smotrich وزير المالية بحجة التطرّف المزعوم للطلاب العرب في الجامعات.[5]

ومن أنواع المدارس الفلسطينية في القدس، وفق المرجعية:[6]

• مدارس الأوقاف: تتبع للسلطة الفلسطينية وتتبنى المنهاج الفلسطيني الأصلي، ويصل عدد الطلبة فيها إلى 10,881.

• المدارس الخاصة: غالبيتها في العام الدراسي 2024/2023، وزعت المنهاج المحرف، وبعضها فيها منهاج البجروت، والمدارس الخاصة التي ما زالت تُدرِّس المنهاج الأصلي معظمها مدارس مسيحية، عدد طلبتها 33,817، منهم 1,745 يدرسون البجروت.

• مدارس الوكالة: المنهاج الفلسطيني الأصلي، عدد طلبتها 972.

• مدارس المعارف والبلدية: تدرس المناهج الفلسطينية المحرّفة وبعضها البجروت، عدد طلبتها تقريباً 50 ألفاً، من هؤلاء الطلاب 11,520يدرسون البجروت.

• مدارس شبه المعارف (المقاولات): منهاجها في الأغلب بجروت، عدد طلبتها 2,734.

ثانياً: المناهج في مدينة القدس… التحريف الممنهج:

تختزل كثير من الدراسات التحريف الذي مسَّ المناهج في القدس بتلك التغييرات التي تجري على الكتب المقررة فقط، متغافلين عن جانب رئيسي أيضاً، وهو أن المنهاج يشمل بالإضافة إلى المقرر الدراسي مجمل العملية التعليمية، ممثلة بكادرها التعليمي والتربوي وما تقوم به من أنشطة ومهام ومناسبات وفعاليات وتذكيرات؛ مما يحوّل المقرر الدراسي المكتوب إلى فعل مُعاش، وهي محاولة حثيثة لتحويل الماضي أو التجارب الفردية إلى ذاكرة جمعيّة للطلاب، وبالتالي تكثيف الجهود لبناء الهوية الثقافية والاجتماعية للطلبة. وفي القدس إذ يتعرض كل من التاريخ والذاكرة الجمعيّة العربية لحملة اعتداءات مستمرة؛ تهدف إلى التزييف والتزوير والطمس والتلاعب واغتيال الأمكنة والأزمنة العابقة بالذكريات والوجود، حيث الفضاء مشحون بالذكريات المتضادة، يمثّل التعليم في القدس ترجمة حقيقية لحرب الروايات، بين شعب يرزح تحت الاحتلال ويحاول الحفاظ على نفسه وهويته، وبين محتل غاشم يتعمّدُ أن ينزع عنه صفة الشعب ولا يعرّفه إلا على أنه جماعات غير يهوديّة تقيم في “دولة إسرائيل”، على الرغم من أن شرقي القدس وبميثاق الأمم المتحدة هي أرض محتلة، إلا أن ما يجرى على الأرض هو إيجاد واقع جديد تكون فيه القدس الموحدة عاصمة لـ”دولة إسرائيل”.

“صدمتيني بالسؤال! ما عمره انحط العلم أو النشيد الوطني حتى من قبل ما تطلع قصة المناهج، ولا بنحيي ذكرى نكبة أو بنحتفل بيوم وطني، أساساً احنا بنعيّد بأعياد اليهود”،[7] هكذا أجابت معلمة سابقة في إحدى المدارس الخاصة وعضو لجنة اتحاد أولياء الأمور وخريجة إحدى أعرق المدارس الخاصة، بحيث عبّرت باستغراب وحسرة عن غياب المظاهر الوطنية في المدارس الخاصة في القدس؛ بفعل القوانين الإسرائيلية الصارمة والتهديدات المستمرّة. “أننا لا نملك إلا أن نخفي حبّنا لفلسطين”، هو تعليق آخر، لأحد الأساتذة في إحدى مدارس البلدية في شعفاط، على خريطة العالم التي عُلّقت بجانب الإدارة وحملت أسماء كل الدول باستثناء فلسطين التي خيّم عليها الفراغ.[8] وفي موقف آخر تقول إحدى المعلمات التي تدرّس في إحدى مدارس الأوقاف في وادي الجوز “استغربت مرة حين وجدت مجموعة من الطلاب في الشوارع، وسألتهم لماذا أنتم مش في المدرسة ليسارع أحد التلاميذ بالقول “أنها عطلة..عيد الاستقلال” تضيف لا أعرف إن كان يعرف أو لا، استقلال من؟”[9] فوزارة المعارف تفرض تقويمها على مدارس البلدية والخاصة، وبالتالي تكون العطل في الأعياد اليهودية ومنها ما يسمى عيد استقلال “دولة إسرائيل”، فهل نعي بحق ماذا يعني أن يعبّر الطالب عن ذلك اليوم بمفهوم العيد، ويردف استقلال؟ أي تشويه في الهوية يريدون للناشئة العرب أن يكبروا عليه؟

في مقابلة أخرى مع أم مقدسية[10] اختارت لابنها أن يدرس في مدرسة تراسنطا، وهي مدرسة خاصة ولكنها تعتمد المنهاج الإسرائيلي، ترى أن الهوية الوطنية هي مهمة البيت، غير أن معلمة التربية الاجتماعية تردّ على سؤال إن كان البيت كافياً لتعزيز هوية الطفل، قالت “طب هي الأم بتقعّد الولد وبتحكيله عن النكبة مثلاً”،[11] كم نسبة الأُمهات والآباء الواعيين والذين يمكن أن يملؤوا ذلك الفراغ، والمصيبة أنه ليس فراغاً، ففي حين كان يمنع أن تمثّل الهوية الفلسطينية في المدارس، أصبح المنهاج الجديد يحمل فكرة التطبيع والتعايش مع “دولة إسرائيل” على أنها الدولة المضيفة، وعليك كمقدسي أن تمتن لما تقدمه لك. كما قامت وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية في 2011/3/8 بتزويد المدارس العربية في القدس “بوثيقة استقلال دولة إسرائيل”، وطلبت من إدارة المدارس تعليق الوثيقة في المدارس، على أن يتم عرضها في مكان تتاح فيه الفرصة لكافة الطلاب والمعلمين الاطلاع عليها وكذلك شرح معانيها.[12]

في مقام آخر، يحاجج البعض بأن الأصل في العملية التربوية هو المعلِّم، ولكن ماذا لو كانت المساحة المسموحة للمعلم ضئيلة ومراقبة؟ فعلى مستوى الإعداد للمقابلات في هذه الدراسة اعتذر كثير من المعلمين عن التصريح بأي شيء، بينما طلب القسم الآخر منهم إخفاء أسمائهم والاكتفاء بالترمز، وحذرتني “ه. ط.: وهي مديرة في إحدى المدارس الخاصة من ذكر اسمها مراراً، وبيّنت لي كيف أنها كادت أن تفقد وظيفتها في إحدى المرّات بسبب ذكر اسمها في إحدى التقارير الصحفية.[13] كما طالت يد الرقيب الإسرائيلي المعلمين والطواقم العاملة في وكالة الأونروا، ففي تقرير أعدّه “معهد رصد السلام والتسامح الثقافي في التعليم المدرسيInstitute for Monitoring Peace and Cultural Tolerance in School Education (IMPACT-se)”، كان القسم الأول منه كلّه عبارة عن عملية تجسس على الحسابات الشخصية لمواقع التواصل الاجتماعي “الفيسبوك” لمعلمين يعملون في مدارس الأونروا في كآفة المناطق العاملة بها، بحيث رصدت أي منشورات وطنية تعبّر عن آراء شخصية لأولئك المعلمين، كدعم الأسرى، أو الترحّم على الشهداء، أو كتابة أشعار وطنية، أو حتى تتبعهم في مجرد وضع إعجاب لأحد المنشورات التي تعدّها آلة الاستخبارات الإسرائيلية تحريضاً على “الإرهاب”، مستخدمة ذلك كدليل على تشغيل الأونروا لأشخاص يدعون إلى “الإرهاب” ولا يلتزمون بمعايير الأمم المتحدة.

أضف إلى سياسة الترهيب التي تعتمدها المعارف لتخدير الحسّ الوطني لدى المعلمين، فقد وضعت خططاً تهدف إلى إعداد معلمين يدرسون في الكليات والجامعات الإسرائيلية، ويحتكّون بالمجتمع الإسرائيلي ويخوضون تجربة المجتمع المختلط، فيفترض أن يكون من السهل تقبّلهم لهذه الفكرة ونقلها إلى تلامذتهم، وفي الوقت ذاته، تحارب وزارة المعارف الجامعات الفلسطينية؛ فلا تعترف بجامعة القدس أبو ديس، وتفرض شروطاً واستكمالات عديدة على المعلمين من خريجي بيرزيت، وبيت لحم، وغيرها من الجامعات الفلسطينية.

وعلى الرغم من أن عدد المقابلات التي أجريتها محدود، ولست هنا بصدد إطلاق التعميمات، ولكن أستطيع القول أني لامست فروقاً واضحة في طريقة تعبير المعلمين الذين ينتمون لمؤسسات تعليمية مختلفة في وجهة نظرهم، نحو وزارة المعارف وتأثيرها في المؤسسات التي يعملون بها، وموقفهم من هوية الطالب المقدسي وإدراكهم للدور الذي يقومون به، إذ استخدمت معلّمة من إحدى المدارس الابتدائية من بيت صفافا مصطلح “ابن الدولة” للتعبير عن الطالب المقدسي، ودافعت عن منهاج البجروت مبرزة حسناته ومميزاته واعتماده طرق التفكير العليا، كما بيّنت المميزات التي تحظى بها تلك المدارس من قبل البلدية والمعارف، وأخيراً قالت بأن آخر صف للمنهاج الفلسطيني في المدرسة كان في العام 2023/2022، أما العام الحالي فلا يوجد أي صف، وبرّرت ذلك بعزوف الأهالي عن المنهاج الفلسطيني،[14] وفي الحقيقة لقد كان من الصادم بالنسبة لي استخدام مصطلح “ابن الدولة”، فإن كانت “إسرائيل” لا تعترف بالمقدسيين كمواطنين في “دولة إسرائيل”، فلماذا تفرض عليهم أن يكونوا منتمين لها ممتنين لما تقدمه من خدمات على الرغم من أن هذا الحق مكفول للشعوب المحتلة ومن واجب دولة الاحتلال، ولكن إن كان المعلم يتحدث بتلك الطريقة فماذا ننتظر ممن يتتلمذ على يديه؟ وعند سؤالها عن فكرة أسرلة المنهاج، قالت بأنّ لها وجهة نظر مختلفة إزاء ذلك، فهي لا ترى أن الأسرلة تكون باستبدال المناهج وإنما باختراق المجتمع الفلسطيني وتغريبه، بحيث تتزعزع عادات وثقافة تربينا عليها، فمثلاً حين تُعلّم الطفل العربي بأن بإمكانه الاتصال بالشرطة والشكوى على المعلمين أو حتى على والديه، وحينما تمسّ قدسيّة تلك الأشياء في مجتمعنا، فهذه هي الأسرلة والشعور بالاغتراب عن الثقافة العربية.[15]

في حين أن تصاريحات لإخصائية نفسية تعمل في مدارس البلدية، وبالتحديد في منطقة الطور حيث يعتمد المنهاج المحرف، لم تُعرِ قضيّة أسرلة المناهج كثيراً من الأهمية، ورأت أن الأمر لا يتعلّق بالمناهج أو بالكتب المقرّرة بقدر ما يتعلّق بالوضع الاجتماعي والاقتصادي لهؤلاء الطلبة، فحسب رأيها أن معظم مرتادي هذه المدارس التي هي بالمجان ينحدرون من أوضاع اقتصادية صعبة؛ لذا فإنه بالرغم من تعلّمهم المنهاج المحرّف في مدارس البلدية تلك، إلا أنهم حسب رأيها الأكثر عنفاً مع الاحتلال، وعادة ما يسارعون إلى إلقاء الحجارة على جيش الاحتلال، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة من منطلق الشعور الوطني الجامح، فهي ترى أن مردّ ذلك يعود لحنق الطلاب على الاحتلال وتحميله مسؤولية أوضاعهم المعشيّة الصعبة، وظروفهم الاقتصادية السيئة، والتمييز في الخدمات، ومعظم أولئك الطلبة، كما ترى، من ذوي التحصيل العلميّ الضعيف، ونسبة لابأس بها منهم تعاطى المخدرات ويعاني من الإحباط ومشاكل نفسية أخرى.[16]

بينما شدّدت إحدى المعلمات التي تعمل في مدرسة خاصة على أهمية التمسّك بالمنهاج الفلسطيني ودوره في هوية الطالب المقدسي، ولكنها مع ذلك عبّرت عن خوفها وخوف الطاقم الإدراي والتدريسي من التسريح من العمل إذا ما أُوقف ترخيص تلك المدارس بسبب الاستمرار في تدريس المنهاج الفلسطيني الأصلي، وقالت إن كل شيء يتوقف على بداية انطلاق العام الدراسي 2024/2023، ولكنها في الوقت ذاته أشارت إلى أنه ربما يكون من الأجدى العمل بأقل الضررين، وهو العمل بالمنهاج المحرّف إذا ما أصرّت وزارة المعارف على ذلك، وبيّنت أن ذلك أفضل من تسريح طاقم العمل، وحرمان الطلبة من مدارسهم، وربما تسرّب بعضهم من الدراسة في ضوء استمرار مشكلة نقص الغرف الدراسية، أو اضطرارهم إلى التسجيل في المدارس الجديدة التي هي على الأغلب تتبنى المنهاج الإسرائيلي الذي هو بالمحصّلة أسوأ وأخطر من المنهاج الفلسطني المحرّف.[17]

بينما كان صوت معلّمة تدرّس في مدرسة تابعة للأوقاف في وادي الجوز أكثر جرأة ووضوح، إذ بيّنت أهمية المنهاج في تعزيز صمود المقدسي والحفاظ على وجوده وتمايزه، وأبدت حزنها على المناهج الأصلية التي ترى أنها في هبوط مستمر لترضي عين الرقيب الدولي والإسرائيلي.[18]

تحريف المقررات الدراسيّة… من شجب “التحريض” إلى فرض التطبيع:

في سنة 2011 تمّ إصدار أول نسخة محرّفة من المنهاج الفلسطيني، وقد اقتصرت المرحلة الأولى على طمس كل ما له علاقة بالهوية الفلسطينية أو الانتماء العربي، وما له علاقة بالتاريخ اليهودي لا سيّما تاريخ اليهود في الجزيرة العربية وعلاقتهم بفترة صدر الإسلام، فكانت يد الرقيب الإسرائيلية تقوم بطمس كل ما تدّعي أنه تحريض ضدّ “دولة إسرائيل”، وكان من الواضح أن هدفها كان يتركز حول طمس الرواية الفلسطينية وإسكات صوتها، بإزالة كل رموز تلك الرواية ومرتكزاتها من علم فلسطين، وخارطتها التاريخية، ونشيدها الوطني، ومساحتها، ومدنها العربية المحتلة، وتاريخها الحديث الذي يُجمل بمفهوم القضيّة الفلسطينية؛ من مخططات صهيونية أنتجت النكبة فالنكسة والانتفاضات المتتالية، وما نتج عن ذلك من مسائل عالقة تتعلق بالقدس والأسرى واللاجئين. كل تلك المدلولات التي طمست من المناهج نظرياً بتحريف المقررات الدراسية، وواقعاً؛ بمنع كل تمظهرات الهوية الفلسطينية في المدارس، ومنع الأنشطة اللا منهجية التي من شأنها تحويل المقررات من مجرد تاريخ إلى ذاكرة جمعيّة بإعادة تمثّلها وتجسيدها عبر محاكاتها مسرحاً وفناً وخطابة وفعاليات تراثية ووطنية. وليس هذا فحسب، إذ إن آلة التحريف لم تتوقف هناك، فبعد إسكات صوت الرواية الفلسطينية بدأ العمل على استبدالها برواية أخرى ترتضيها آلة القهر الإسرائيليّة تقوم على إرساء مفاهيم توراتية، تارة على الأماكن والأحداث، كحائط البراق، وتضمين تاريخ محرف حول الوجود اليهودي الممتد في فلسطين، وتارةً أُخرى تُدرّس حلول أُحادية الجانب على أنها حقائق، كتعاملها مع القدس على أنها العاصمة الموحّدة لـ”إسرائيل” ونفيها لحق اللاجئين بالعودة بتضمين قضيتهم على أنها شكل من أشكال الهجرات البشرية على مرّ العصور، وبهذا فإن “إسرائيل” طوّعت واجبها في تعليم المقدسيين الذي كفلته الأمم المتحدة وبيّنت بأنه يجب أن يكون متناسبا ًمع ثقافة الشعب المحتل، إلى سلاح قهر فرضته على المقدسيين محوّلة التعليم من منحة إلى محنة.

تنقسم عمليات التحريف التي مسَّت المناهج إلى أربعة أشكال، وهي الطمس والاستبدال وتغيير المتن والتحريف، نقصدُ بالطمس هو الحذف الذي طال أي نصّ من نصوص المنهاج الأصلي، سواء أكان كلمة أم نصاً أم صورة، وقد درج استخدام هذا النوع من التحريف مع النسخ الأولى من المناهج المحرفة حتى سنة 2018، وقد غلب عليها عدم التناسق فترك محل الطمس فارغاً.

تُعدّ المرحلة الثانية من عملية التحريف التي صدرت سنة 2018 أخطر وأعمق من سابقتها، إذ لم تكتفي تلك الجهات التي أوكلت لها مهمة التحريف بعمليات الطمس بل شرعت في تنفيذ عمليات تغيير متن واستبدالٍ ممهنجة للمناهج الفلسطينية، فتمّ ذلك إما باسبدالٍ كاملٍ لدرسٍ معين أو خريطة أو صورة بأخرى مختلفة تماماً، وهناك أمثلة كثيرة على تغيير المتن، إذ تحذف بعض الجمل من التمارين وتضاف أخرى مكانها. وقد لوحظ أن تلك الكتب المحرفة أُعيد تنسيقها وتنظيمها على درجة عالية من التناسق بحيث يُصعب على المعلمين والطلبة ملاحظة أماكن التحريف، بينما سابقاً كان يبقى مكان الطمس واضحاً فيسهل على المعلمين أو حتى الطلاب الرجوع للنسخ الأصلية ومعرفة ما تمّ طمسه.

نلاحظ أن التحريفات السابقة ركزّت على إسكات صوت الرواية الفلسطينية بحذف كل الصور والنصوص الدالّة عليها واستبدالها بنصوص وصور عامة في المجمل، غير أن الطبعة الجديدة من المناهج المحرفة سنة 2022 حملت رؤية جديدة تقوم على إدراج الرواية الإسرائيلية في المناهج الفلسطينية وطرحها كبديل للرواية الفلسطينية. إذ تستهدف تلك المناهج عدّة ركائز في الرواية الفلسطينية، أهمها الجغرافيا كمحاربة خريطة فلسطين، وترسيخ مساحة الضفة والقطاع بدل المساحة الكلية لفلسطين، والحديث عن مدن الضفة وعدم التطرق لمدن الداخل إلا في إطار الحديث عن “إسرائيل”، واستهداف التاريخ بمحاربة ركائز التاريخ الحديث للشعب الفلسطيني كالنكبة، والنكسة، والقرى المهجرة، وتزوير تاريخ الحركة الصهيونية، وترسيخ حلول أُحاديّة الجانب لقضايا الحل النهائي بالأخصّ قضيتا القدس واللاجئين، واستهداف شخصية الطالب المقدسي.

كما ظهر التركيز على قضية التسامح في المناهج المحرفة، واستخدامها في غير محلها؛ بحيث تستخدم للتأثير على شخصية المقدسي فتوجد له إرباك بين العدو والصديق، بحيث يستخدم التسامح الذي هو خلق إسلامي وعروبي إلى أداة لتمرر الضعف والاستكانة إلى قلوب المقادسة، الذين يُنشؤون في المناهج المحرفة على أن اليهودي جار في الحي وأخ في الإنسانية وشريك في العمل والتطور.

ثالثاً: استراتيجيات فرض المنهاج المأسرل:

أثبتت التجارب التي خاضتها سلطات الاحتلال ضدّ المقادسة بأن سياسة المواجهة المباشرة معهم تجعلهم أكثر تيقظاً ووطنية، كما وتثير حالة تآزر فلسطيني وعربي معهم، وقد جرّبوا ذلك في محاولة فرض المنهاج الإسرائيلي عقب الاحتلال مباشرة سنة 1967، ومؤخراً في هبّة البوابات الإلكترونية، هبّة باب الأسباط وهبّة باب الرحمة، لذا فقد طوّرت المؤسسة الإسرائيليّة أساليب عديدة في محاولة منها لتطويع المقدسيين، أهمها استراتيجية النفس الطويل والتدرّج وخنق البدائل وإفساح المجال فقط للبديل الإسرائيلي وتلميعه إعلامياً، في محاولة منها للتعامل مع الاضطرابات والهبّات التي لا تلبث أن تتفجر في القدس، فلجأت لسياسة الاحتواء الفرديّة للعرب، محاولة بذلك نزع صفة الشعب وحتى الجماعة عنهم.

ومن اللافت أن هذا التغيير في وجهة نظر الفاعلين الإسرائيليين نحو شرقي القدس جاء مع أكثر الحكومات تطرفاً ويميناً، ففي حين ظلّ يُنظر للمقدسيين على أنهم مقيمون، وكانت تستنكف أي وزارة عن الاستثمار في شرقي القدس جاءت الفكرة المضادة، أنه لماذا لا نفكر بأنهم باقون ونطور الجزء الشرقي من المدينة بما يتناسب مع كونها عاصمة لـ”دولة إسرائيل”.[19] ولتمرير المنهاج الإسرائيلي وتحقيق الهدف النهائي بأسرلة التعليم العربي في القدس وفرض المنهاج الإسرائيلي بالكليّة، فقد اتبعت المؤسسة عدة استراتجيات آملة بذلك إنتاج جيل جديد ينسلخ عن هويته ويُدين بالولاء لـ”دولة إسرائيل”.

1. استراتيجية توظيف الأزمات:

عانت المنظومة التعليمية في القدس منذ لحظة الاحتلال الأولى إلى وقتنا الحاضر من جملة من المشاكل المركّبة، تحمّل فيها الاحتلال مسؤولية الجزء الأكبر من تلك المشاكل، غير أن الجديد اليوم هو استغلال تلك المشاكل من قبل سلطة الاحتلال لتحويلها لصالحها؛ عبر تبنّيها حلول وبدائل لتلك المشاكل تصبّ في النهاية في دائرة محاصرة المدارس الفلسطينية في القدس، لا سيّما مدارس الأوقاف وتفريغها من الطلاب، ووضع يدها على المدارس الخاصة والأهلية عبر الابتزاز المالي والتهديد بسحب التراخيص، وتقديم المدارس التابعة للبلديّة، لا سيّما تلك التي تتبنّى المنهاج الإسرائيلي منها، على أنها الخيار الوحيد المتاح.

أ. تعدّد المرجعيات التعليمية:

تنوّعت طرائق سلطة الاحتلال في التعامل مع مشكلات قطاع التعليم في القدس تبعاً للمشكلة نفسها، غير أنّ كل تلك الطرق تصبّ في النهاية في طريق تسريع عملية الأسرلة، إذ تعاملت مع مشكلة تعدد المرجعيات المشرفة على التعليم في القدس بإغلاق مكتب مديرية التربية والتعليم في القدس سنة 2019،[20] معلنة بذلك محاربتها لأي وجود مرجعي للسلطة الفلسطينية على أرض القدس، كما صرّحت مراراً عن نيتها بإنهاء وجود الأونروا ومؤسساتها؛ فشنّت عليها حملة منظمة متهمة إياها بأنها تدرّس منهاج تحريضي ومعادي للساميّة، طالبة من الدول المانحة قطع المساعدات عنها، وكادت تنجح في ذلك، فترة ولاية دونالد ترامب Donald Trump بعد قطع المساعدات المالية الأمريكية، الأمر الذي كاد يتسبب بإفلاسها؛ كل ذلك لتطرح نفسها كمرجعية وحيدة موجّهة للعملية التعليمية في القدس. وهناك أيضاً دافع آخر يقف وراء عداء المؤسسة الصهيونية للأونروا ومؤسساتها ومن ضمنها المدارس التابعة لها في القدس، إذ أن وجودها دليل على الجريمة التي لحقت بشعب فلسطين سنة 1948، وهو ما تحاول “دولة إسرائيل” محوه من الذاكرة الجمعيّة العالمية والمحلية على اعتبار أن الوجود اليهودي في أرض فلسطين حقيقة تاريخية ممتدة، وعلى النقيض من ذلك تحاول إيجاد ذاكرة جمعيّة جديدة تقنع أو ترغم فيها المقادسة على التسليم بأنهم مقيمين في القدس بفعل تسامح “دولة إسرائيل” مع الأقليات الغير يهودية. ولتدليل على ذلك نجد في التقرير الذي نشرته عير عميم Ir Amim أن البلدية استغلت قرار المحكمة الإسرائيلية العليا الذي يطالبها بإضافة وحد صفيّة، فقامت ببناء مدرسة جديدة في كفر عقب دون دراسة الحاجة الحقيقية لتلك المنطقة، إذ تضيف عير عميم أنه بعد دراسة الأمر تبين أن هناك مدرسة بالفعل تخدم منطقة كفر عقب ومخيم قلنديا، وأن الهدف الرئيس من بناء تلك المدرسة هو صراع الشرعية مع وكالة الأونروا التابعة للأمم المتحدة، وأن هذه الصفوف مشروطة بتبني المنهاج الإسرائيلي البجروت.[21]

ب. أبنية مدرسيّة متهالكة:

أما مشكلة الأبنية المتهالكة التي تتصف بها مدارس القدس لا سيّما مدارس الأوقاف، إذ توصف بأنها عبارة عن بيوت سكنية، وأكثر من نصفها مستأجر، وهي غير ملائمة من النواحي التعليمية والصحية، وتفتقر إلى المكتبات والمختبرات العلمية والبنى التحتية من ملاعب وقاعات، ويعزى السبب الرئيس في تلك الأوضاع إلى تعنّت سلطات الاحتلال في منح رخص لبناء مدارس جديدة أو حتى ترميم المدارس الحالية وإضافة بعض المرافق لها، وتفرض غرامات عالية على أي مخالفات تضطر إليها المدارس مهما كانت صغيرة، مثل بناء مظلات خارجية أو إضافة مرافق صحية.[22] وقد تمّ استغلال تلك المشكلة من قبل البلدية فأخذت ببناء مدارس ورياض أطفال نموذجية جديدة تابعة للمعارف، لتكون عامل جذب للطلاب وذويهم بدلاً من مدارس الأوقاف وحتى بعض مدارس المعارف المتمسكة بالمنهاج الفلسطيني، وإلى جانب الأبنية المدرسية المجهزة بالملاعب والساحات والمختبرات والمكتبات يتمّ الترويج للعديد من الأنشطة اللا منهجية، والتي تكون البلدية مسؤولة عن جزء كبير منها لا سيّما تلك التي تتم بعد انتهاء الدوام الرسمي، مثل خدمة إبقاء التلامذة الصغار من الصف الأول والثاني في المدرسة لغاية الساعة الرابعة، وحصولهم على وجبة غداء ساخنة لحين اصطحابهم من قبل الأهل، ثم هناك أنشطة تتعلق بالسباحة وركوب الخيل والدبكة والشطرنج والطبخ والإسعافات الأولية واللغات والجمباز والربوتات وغيرها والتي تشكّل عامل جذب للأهل والأطفال على حدٍّ سواء وترغّبهم بالعملية التعليمية،[23] كل ذلك بالطبع في سبيل جذب الطلاب العرب للدراسة في هذه المدارس التي تتبنّى المنهاج الإسرائيلي، البجروت، وهذا ما نطلق عليه في ثقافتنا الشعبية “السم بالدسم”.

ج. الاكتظاظ:

أوجدت سياسة الإهمال التي كانت تنتهجها السلطات الإسرائيلية إزاء النظام التعليمي في القدس والعقبات القانونية التي كانت تضعها أمام استصدار الرخص، التي أشرنا إليها سابقاً، مشكلة الاكتظاظ في مدارس القدس إذ يشير التقرير الذي أصدرته مؤسسة فيصل الحسيني في آب/ أغسطس 2022 إلى أن المساحات المتوفرة في المدارس تحت المظلّة الفلسطينية تكفي في الحالة المثالية إلى 31,500 ألف طالب/ة، ولكنها فعلياً تخدم 45,500 ألف من الطلاب، وهذا يعني أنه من المفترض إضافة 560 وحدة صفيّة لاستيعاب الـ 14 ألف طالب الذين يشكّلون الزيادة في القدرة الاستيعابية للمدارس، كما يتوجب إضافة 80 صفاً سنوياً لاستيعاب الزيادة السنوية في عدد الطلبة والبالغ ألفيْ طالب/ة.

ونتيجة للدعوات التي كان يقدمها اتحاد أولياء الأمور واللجان والمؤسسات القانونية، أصدرت المحكمة الإسرائيلية العليا العديد من الأحكام[24] التي ألزمت وزارة المعارف بسدّ الفجوة في الغرف الصفيّة، ولسدّ ذلك العجز بدأت وزارة المعارف بشراء الخدمات التعليمية من المدارس الخاصة، وذلك بدفع مبالغ مالية عن كل طالب، وتلك الخطوة دعمت سلطة الاحتلال من عدّة زوايا، حيث شجّعت المدارس الخاصة على قبول التمويل الحكومي، وكان في البداية غير مشروط فبنت خططها وموازناتها على ذلك الأساس فوصلت نسبة المدارس الخاصة والأهلية التي تتلقى تمويلاً إسرائيلياً إلى 98%؛ وهذا جعلها اليوم لُقمة سائغة وهدفاً سهلاً للاختراق وتنفيذ مخططات الأسرلة لا سيّما في ظلّ انعدام الدعم المقدّم من السلطة الفلسطينية، كما أدى إلى ظهور ظاهرة التعليم التجاري أو ما يصطلح عليه مدارس المقاولات، والتي أسسها في الأغلب رجال أعمال، وهدفها الربح التجاري، وترتكز بالأساس على التمويل الإسرائيلي، وتتبنى في غالبيتها المنهاج الإسرائيلي، وتتسم بضعف المخرجات التعليمية والتربوية. ثم لاحقاً لا سيّما بعد تبنّي الخطة الخمسية[25] من قبل الحكومة الإسرائيلية دأبت البلدية على بناء مدارس جديدة وحديثة تابعة لوزارة المعارف تتبنى المنهاج الإسرائيلي، وقد ارتفع عدد مدارس البلدية من 54 مدرسة فقط عام 2012/2011 إلى 92 مدرسة متاحة للتسجيل للعام الدراسي 2023/2022،[26] وقد وُجد أن هذه الطريقة هي الأسهل لتوسيع نطاق العمل بالمنهاج الإسرائيلي دون الحاجة لخوض الصراعــات المرتبطة بانتقال مدارس عريقة من المنهاج الفلســطيني الذي تدرّســه منذ عقود إلى المنهاج الإسرائيلي.

جدول يُبين الغرف الصفية المضافة حسب السنوات[27]

د. نقص الكادر التعليمي:

تعاني مدارس الأوقاف والمدارس الخاصة من مشكلة نقص الكادر التعليمي، ويعزى السبب إلى عامليْن يقف وراءهما الاحتلال، أولهما؛ تسبّب به جدار الفصل العنصري الذي ترتب عنه منع المعلمين الفلسطينيين من حملة هوية الضفة من الدخول إلى القدس للتعليم في مدارسها، فقبل انتفاضة الأقصى سنة 2000، كان نحو 60% من المعلمين العاملين في المدارس التابعة للمظلة الفلسطينية هم من حملة هويّة الضفة. والسبب الثاني؛ هو تدني رواتب المعلمين في تلك المدارس مقارنة بنظرائهم في مدارس المعارف والبلديّة، وبالرغم من تقديم وزارة التربية والتعليم علاوة لمدرسي القدس إلا أن رواتبهم ظلّت غير متناسبة وغلاء المعيشة.[28] الأمر الذي يضطرُ الكثير من المدارس الأهليّة للرضوخ إلى الشروط الإسرائيلية من أجل الحصول على بعض المساعدات والميزانيّات التي تمكّنها من الاستمرار،[29] كما تسبب بانتقال العديد من المعلمين للعمل في المدارس التابعة للبلدية بعد عمل الاستكمالات المطلوبة التي تستغرق أحياناً عدّة سنوات، وهذا في الحقيقة جسّد واقع السؤال الذي طرحته دائرة المعارف على الطلاب العرب الذين يرغبون في النهاية بالإلتحاق بأجهزة المعارف، وهو لماذا لا تختصر الطريق على نفسك وتلتحق ببرنامج البجروت الذي يسهل عليك دخول كلية التربية وإعداد المعلمين في الكليّات والجامعات الإسرائيليّة؛ وبالتالي ستوفر على نفسك السنة التحضرية ودورات اللغة العبرية التي ستضطر للالتحاق بها إذا قررت اختيار برنامج التوجيهي الفلسطيني.[30]وهذا يفسر اهتمام الخطط الإسرائيلية بالتعليم العالي، فمن جهة هي بحاجة لمعلمين قادرين على التعامل مع المنهاج الإسرائيلي الذي تُقرّه في مدارسها—بعد فشل خططها في استجلاب مدرسين من الشمال—فوجدت أنه من الأجدى تأهيل معلمين مقدسيين عبر تشجيع الطلاب على الدراسة في الكليّات التابعة لها، أضف إلى ذلك تحقيق اندماج واختلاط مباشر مع المجتمع الإسرائيلي، فالجامعات على غير المدارس التي تكون غالباً متجانسة عرقياً ودينياً، إذ يشكل مجتمع الجامعة بيئة غير متجانسة تشجع الحوار وتقبل الآخر.[31] ولأجل ذلك تستخدم إغراءات عديدة؛ منها المنح الدراسيّة، والمباني الفاخرة، والوظائف التي توفرها للطلبة في أثناء مرحلة الدراسة، ونظام الأقساط الموحد لكل التخصصات، على عكس النظام التفاضلي في الجامعات الفلسطينية، إلى جانب أنها أصبحت تقبل الطلبة المقدسيين من حاملي شهادة الثانوية العامة الفلسطينية “التوجيهي” دون الحاجة إلى امتحان “البسيخومتري Psychometrics”، وتوفر لهم أيضاً سنة تحضيرية مجانية يتعلمون فيها اللغة العبرية بشكل مجاني.[32] جرى تغيير في البند الأخير عند إقرار الخطة الخمسية الجديدة التي أقرت في آب/ أغسطس 2023، إذ رفض وزير المالية اليميني المتشدد سموتريتش تمويل البند المتعلق بالتعليم العالي بحجة التطرّف المزعوم للطلاب العرب في الجامعات.

هـ. المستوى الأكاديمي:

على مدى عقود طويلة عانت المؤسسات التعليمية في القدس لا سيّما التي تتبع البلدية من سياسة التهمش والإهمال، وهذا ترتب عليه انخفاض المستوى الأكاديمي في تلك المدارس، أضف إلى ذلك انتشار بعض الظواهر السيئة في تلك المدارس كالمخدرات والعنف والاكتظاظ، ما جعل الأهل عامة يعزفون عن تسجيل أبنائهم في مدارس البلدية ويفضّلون المدارس التابعة للمظلة الفلسطينيّة، خصوصاً الأهلية والخاصة منها، لا سيّما في سنوات الدراسة الأولى للطفل أي نتحدث عن المرحلة الابتدائية، إذ أنها حسب ظنهم أقوى في عملية تأسيس الطفل لا سيّما في اللغة العربية والإنجليزية.[33] بينما ظلّ البجروت لسنوات مفراً للطلاب ذوي التحصيل الضعيف هرباً من التوجيهي الفلسطيني، غير أن السنوات الأخيرة حملت معها تغيّرات عملت فيها وزارة المعارف جاهدة لتغيير تلك الصورة، ومحاولة تلميع صورة التحصيل الأكاديمي لمدارسها التي تتبنى المنهاج الإسرائيلي؛ وذلك بعد أن شهدت ضعفاً في الإقبال على التسجيل في مدارسها الحديثة القائمة على منهاج البجروت، وللتعاطي مع تلك المسألة قامت بعدة خطوات لتحسين سمعة مدارسها:

• بناء مدارس تخصصية تشجع الطلبة على التسجيل حسب ميولهم، كمدارس المتفوقين والمدارس التكنولوجية والمدارس الفنية والفندقية.

• التضييق على مدارس البلدية العاملة بالمنهاج الفلسطيني كجعلها مدارس مناطقية فقط في محاولة لتجفيف منابعها تمهيداً لإغلاقها، مثل ما حدث مع مدرسة خليل السكاكيني للبنات، أو دمج عدة مدارس ببعض وإيجاد مشكلة الاكتظاظ في محاولة لدفع الأهالي لإيجاد البديل الذي عادة ما يكون مدارس البلدية التي تتبع المنهاج الإسرائيلي، والجدير بالذكر أن معظم مدارس البلدية داخل البلدة القديمة تعاني مشاكل مفتعلة، إذ كان من بنود الخطة الخمسية 3790 تفريغ البلدة القديمة من المدارس، والسيطرة على مبانيها التاريخية الأثرية، بهدف تحويلها إلى مدينة سياحية.

• استقطاب معلمين أكفّاء بتقديم رواتب مغرية، ووضع برامج عديدة لإعادة توظيفهم، منها برنامج “شباب في ضائقة” الذي غطته الخطة الخمسية ويحاول استغلال الحاجة المادية لأولئك الشباب، وفي حالات أخرى من هم فوق سن الشباب ومن ضمنهم فئة المعلمين.[34]

• تعمل الوزارة على تلميع سمعة منهاج البجروت بإظهار محاسنه التي تدعيها، مبيّنة أنه يعتمد على مهارات التفكر العليا، وأنه ليس تعليماً بنكياً على عكس المنهاج الفلسطيني، كما أنه يراعي المستويات الفردية ولا يتسبب بضغط نفسي كالذي يرافق طالب التوجيهي وأهله على مدار العام، وهذه الفكرة يتم الترويج لها وإقناع الأهل بها على اعتبار أنّ البجروت يعتمد نظام الوحدات وهو متطور ومواكب للعصر ومليء بالجانب العملي، وهو ليس منهاج واحد إنما يمكن اختياره وفق إدارة المدرسة، وقد لاحظنا من المقابلات دفاع العديد من المعلمين الذين تمّ مقابلتهم وحتى أولياء أمور عن هذا المنهاج، واعتبار الجانب المتعلق بالهوية الفلسطينية مهمة خاصة بالبيت والأهل وليس المدرسة.

• التركيز على اللغة العبرية بشكل كبير في مدارس البلدية، أي اللغة العبرية متطلب إجباري لدخول الجامعات العبرية، وإكمال الدراسة، ومتطلب لسوق العمل؛ وهذا يجعل العديد من الأهل يفضلون مدارس الأوقاف والخاصة في المراحل الابتدائية لأنها، كما أشرنا سابقاً، أقوى في اللغات، وثم ينقلونهم بعد ذلك لمدارس البلدية لتعلم اللغة العبرية، وأيضاً لأن خريج البجروت يجد فرص أكبر في الجامعات الإسرائيلية أو سوق العمل. حسب معلومات بلدية الاحتلال، فإنّ 60% من الطلاب الذين يلتحقون بمدارسها الجديدة ينتقلون إليها من المدارس الفلسطينية الخاصة.

• أسهمت الإضرابات التي تكررت على مدار ثلاث سنوات في مدارس الضفة، ومن ضمنها مدارس الأوقاف في القدس والمدارس التابعة للأونروا في هزّ ثقة الأهالي بتلك المدارس ومحاولتهم للبحث عن بديل جيد لأطفالهم.

• أسهمت الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها المقدسيون بسبب سياسة الاحتلال القائمة على التميز بين شطريْ المدينة إلى انتشار البطالة وارتفاع نسبة الفقر في شرقي القدس، إذ بلغت نسبة الفقر في فترة الكورونا حسب تقرير عير عميم 77%، وهذا أدى إلى عزوف كثير من الأهل عن تسجيل أبنائهم في المدارس الخاصة أو الاكتفاء بتدريسهم

• مرحلة محددة وليس كل المراحل، إذ تصل معدل الأقساط في المدارس الخاصة بين 1,000 و3,700 دولار للطالب في العام الدراسي الواحد، وهو مبلغ كبير مقارنة مع الوضع الاقتصادي الصعب أو في ظلّ وجود أكثر من طفل في الأسرة.

و. التسرب المدرسي:

يمكن تفسير مشكلة التسرب العالية التي تصل إلى 26.5%[35] في مرحلة الثانوية، على أنها تجسّد خلاصة كل تلك المعوقات التي ذكرناها آنفاً، ويمكن القول بأن هذه النتيجة كانت هدفاً بحدِّ ذاتها للمؤسسة الإسرائيلية لنشر سياسة التجهيل بين المقدسيين، وذلك من منطلق العنصرية والتفوّق اليهودي، غير أن هذه السياسة تغيرت لا سيّما بعد الخطتين الخمسيّتين 3790 و550 والتي تهدف إلى رفع المستوى الاقتصادي للعاصمة، الذي يتطلب توفير أيادي عاملة مدرّبة، وهو ما حاولت توفيره المؤسسات التعليمية ببناء المدارس التكنولوجية والتركيز على اللغة العبرية؛ لتسهيل اندماج المقادسة في سوق العمل، لا سيّما أن الطلاب العرب تصل نسبتهم إلى 36% في مقابل 40% للطلاب من فئة الحريديم و24% من الطلاب اليهود الذين يدرسون في مدارس علمانية، ونظراً لقلة إسهام فئة الحدريديم في الأنشطة الاقتصادية، وقلة إسهامهم في سوق العمل أخذ التركيز يتجه النحو الطلبة العرب، على اعتبار أنهم الأيادي العاملة المستقبلية، في محاولة لتحويل المقدسيين إلى عمالة تكنولوجية رخيصة.

2. استراتجية تطبيق المناهج المأسرل مرحلياً “النفس الطويل”:

أثبتت التجارب التي خاضتها سلطات الاحتلال مع القدس وأهلها أن الطريق المباشرة للسيطرة وتطويع المقدسيين هي أصعب الطرق، وعادة ما تتحول إلى اضطرابات وعنف في المدينة، وعادةً ما يمتدّ مداها في حالات كثيرة إلى كل فلسطين، لذا فقد وضعت الخطط الطويلة الأمد للسيطرة على عقول المقدسيين وكيّ هويتهم الوطنية عبر سياسات عديدة، منها:

• سياسة الاختراق: تصل نسبة الطلبة في المدارس التابعة للمظلّة الفلسطينية ما يقارب النصف، لذا فإن السلطات الإسرائيلية تعلم أنه لا يمكنها تمرير أهدافها الكبيرة دون اختراق تلك المؤسسات، وبطريقة خبيثة عملت على زيادة الكلفة التشغيلية للمدارس الخاصة ومن ثم عرضت عليها التمويل المجاني، ولكنه سرعان ما تحول بعد ذلك لابتزاز وتهديد بسحب التراخيص إلا إذا قدّمت تلك المدارس تعهّد بتدريس المنهاج المحرف أو فتح شعب بجروت في تلك المدارس، كسحب التراخيص من مدارس الإيمان والمدرسة الإبراهيمية في العام الدراسي الماضي وإصرار المعارف على إجبارهم على تدريس المنهاج المحرف هذا العام 2024/2023.[36]

• سياسة العصا والجزرة: في سنة 2011 تمّ اعتماد سياسة الترغيب إلى جانب سياسة التضييق والإهمال، كما واصلت الجهات الرسمية الإسرائيلية وضع الخطط غير يائسة من تدنّي نسبة الطلبة الفلسطينيين المنتمين إليها، فمع بداية العام الدراسي 2017/2016، أعلنت وزارة التعليم الإسرائيلية عن “خطة تشجيع وتوسيع تطبيق المنهاج الإسرائيلي في شرق القدس”، تنصّ هذه الخطة على تقديم ميزانيات إضافية لكل مدرسة تُعلّم فعليّاً المنهاج الإسرائيلي، ولو بشكل جزئي، أو مستعدّة لإدخاله في صفوفها، وقد شددّت وزارة التعليم بأنها لن تستثمر في مدارس القدس الشرقية إلا إذا تبنت المنهاج الإسرائيلي.[37]

• سياسة التمييز: في محاولة لرفع نسبة الطلاب الذين يدرسون البجروت، مسَّ التمييز أيضاً مدارس البلدية نفسها، فالميزانيات الضخمة التي تستهدفها الخطط الخمسية موجهه فقط للمدارس التي تُدرّس المنهاج الإسرائيلي، كما أن كل المدارس التي افتتحت حديثاً هي غير مناطقية؛ أي يحقّ لكل طالب مقدسي أن يدرس فيها دون النظر لمكان سكنه، على عكس مدارس البلدية الأخرى التي تتحدد بمنطقة السكن، وهذا يجعل الإقبال أسهل وأكبر للمدارس العابرة للمناطق والتي هي بالتأكيد تتبنى المنهاج الإسرائيلي، وقد لخّصت ذلك إسراء سلهب بقولها “المدارس بتحارب لتحصّل ولد”.[38]

• السياسة التكاملية: تتسم خطة الأسرلة المطبّقة في شرقي القدس بأنها تكامليّة، بحيث يكمّل كل منها الآخر؛ فتبدأ بمرحلة مبكرة وهي رياض الأطفال، إذ تُظهر وزارة المعارف اهتماماً واضحاً بفتح رياض الأطفال، والتي تبدأ باستقبالهم من عمر ثلاث سنوات، وفيها يتعلمون بعض الكلمات والأناشيد العبرية، ويتم تسجيل الأطفال تلقائياً من قِبل إدارة الروضات تلك في مدارس تطبّق المنهاج الإسرائيلي، إلا اذا اعترض وليّ الأمر،[39] ثم مروراً بمرحلة الدراسة الإلزامية في مدارس تُطبِّق المنهاج الإسرائيلي، وفيها يتم التركيز على اللغة العبرية والتعليم اللا منهجي، وتخصيص مدارس تلائم ميول الطلبة، كالمدارس التكنولوجية والفنون واللغات والعلوم، وما يزال الجزء الأكبر قيد الإنشاء، بالاضافة إلى المحاولات المستمرة للترويج لمنهاج البجروت على أنه عصري ومرن، ويُكسب الطلاب المهارات الحديثة في التفكير والاستنتاج، ولا يشكل ضغطاً على الطلاب، بعكس التوجيهي الفلسطيني.[40] وبعد ذلك يأتي دور الجامعات والكليات الإسرائيلية في استقطاب الطلبة المقدسيين، التي باتت تتسابق لاستقطاب العدد الأكبر منهم، مدفوعة بسياسة ممنهجه من قِبل الحكومة التي تدعم في هذا الاتجاه، ومن ثم الاندماج في سوق العمل الإسرائيلي.

• الأجندة السياسية هي الأولوية: بناء مدارس تتبنى المنهاج الإسرائيلي بجانب مدارس أخرى موجودة وعريقة لتكون بديلاً لها، ومحاولة جذب الطلاب لها بدل النظر إلى المشاكل الحقيقية والتي من أهمها مشكلتا الاكتظاظ ونقص الغرف الصفية، وهذا يُظهر أن الدافع الأساسي وراء تلك الخطوات هو دافع سياسي وليس مطلبي.

• خطط متتالية: تُعدّ الخطة 3970 من أكبر الخطط التي استهدفت شرق مدينة القدس منذ احتلالها، وقد خُصِّص للتعليم فيها ميزانية ضخمة وصلت إلى 445 مليون شيكل (نحو 118 مليون دولار) على الأقل، بمزانية 15 مليون (نحو 4 مليون دولار) لتعليم اللغة العبرية، و12 مليون (نحو 3 مليون دولار) للتعليم التكنولوجي، و206 مليون (نحو 55 مليون دولار) للتعليم اللا منهجي، و200 مليون (نحو 53 مليون دولار) لزيادة الإقبال على المنهاج الإسرائيلي، وبالرغم من أن نتائجها لم تكن بمستوى الأهداف التي وضعت لها، غير أن ذلك لم يثني عزيمة المؤسسة الصهيونية التي بنت على هذه الخطة وأطلقت خطة خمسية أخرى 550 بمزانية أكبر وصلت للضعف فيما يتعلق بالتعليم؛ إذ رُصد لهذا البند 800 مليون شيكل (نحو 212 مليون دولار) بقصد البناء على ما سبق والمضي فيه باستثناء بند التعليم العالي الذي رُفض من قبل وزير المالية، ما دفع رؤساء المؤسسات الأكاديمية في القدس، الجامعة العبرية وبتسلئيل Bezalel وكلية هداسا Hadassah Academic College وكلية عزرائيلي Azrieli College، إلى كتابة رسالة لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu، طلبوا منه التدخل في هذا القرار: “قرار وزير المالية الغريب يحكم على الشباب والفتيات في شرقي القدس بالبطالة، ومستقبل بدون أفق تشغيل، وبدون القدرة على إقامة حياة مشتركة. ولا يقل عن ذلك أن مغزى القرار هو المس بالمجتمع والاقتصاد المقدسي والإسرائيلي الذي سندفع جميعاً ثمن أضراره لعشرات السنين القادمة”. وتابعوا بأنه يجب “ألا يسمح لمشاعر تشجع على الكراهية والعنصرية، فتتغلب على الحكمة والفهم، ذلك بأن الاستثمار في التعليم العالي في شرقي القدس سيفيدنا في الغد. استمرار التمويل مهم لدولة إسرائيل بدرجة لا تقل عن أهميته لشرقي القدس”.[41]

• فرض التقويم الإسرائيلي على مدارس القدس ونجاحها في إقرار عطلة الربيع التي توافق الأعياد الدينية اليهودية، وهذا يعني تمديد الدراسة لشهر ستة، وهو الشهر الذي يُقدِّم فيه التوجيهي امتحاناتهم، ووحدها المدرسة الإبراهيمية التي حصلت على استثناء في العام الدراسي الماضي لأن قاعات التوجيهي تكون فيها، وذلك الاستئناء ربما يُلغى في أي وقت، وهذا يدل على مدى استهداف المؤسسة الإسرائيلية للتوجيهي برمزيته الدالة على نظام التعليم الفلسطيني.

3. سياسة تقييد السلطة الفلسطينية وتأليب المجتمع الدولي ضدّها:

شَرَعَت السلطة الفلسطينية سنة 2000 بإعداد مناهجها الخاصة لتدريسها للطلبة الفلسطينيين ضمن مناطق السلطة الفلسطينية، غير أنها دخلت ذلك الباب وهي مثقلة بعبء الاشتراطات الإسرائيلية التي خطّتها في اتفاقية أوسلو، حيث اشتُرط في الاتفاقية أن تُسهم الأنظمة التعليمية الخاصة بهما في “السلام” بين “إسرائيل” والشعب الفلسطيني، و”السلام” في المنطقة عامة، وأن يسعى كل طرف لتعزيز التفاهم المتبادل والتسامح، وبالتالي الامتناع عن التحريض، بما فيها الدعاية العدائية ضدّ بعضهما البعض، وأن تُسهم الأنظمة التعليمية الخاصة بهما في “السلام” بين “إسرائيل” والشعب الفلسطيني.[42] وفي الوقت الذي تبدو فيه هذه الشروط واسعةً وفضفاضة بحيث يمكن التعامل معها، إلا أنها طُوّعت من خلال قنوات الاحتلال الإعلامية والمؤسساتية الإسرائيلية المتمرّسة لممارسة ضغوطات مستمرة على السلطة الفلسطينية لتغيير مناهجها، وذلك بتفسيرها بطرق مختلفة، وفقاً لأهواء الاحتلال ومراميه البعيدة، وفي كل مرة تُصدِر السلطة الفلسطينية مناهج تكون الحجة جاهزة وهي “التحريض” و”معاداة السامية”.

ليست الاتفاقات مع الجانب الإسرائيلي العبء الوحيد الذي تتعثر به السلطة عند صياغتها للمناهج، فهناك التمويل الأجنبي الذي تعتمد عليه السلطة بشكل كبير في موازناتها، ولأجل التأثير على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحثّهما على إجبار السلطة الفلسطينية على تغيير مناهجها. فإن كمّاً من الدراسات التي تقف وراءها دولة الاحتلال تصدر باستمرار وتتفق فيما بينها على اتهام المنهاج الفلسطيني بأنه تحريضي ولا يخدم عملية “السلام”، وتتهم السلطة بتضمين المناهج نصوص من شأنها تنشئة الأطفال الفلسطينيين على العنف والإرهاب ليكبروا في المستقبل ويكونوا مشاريع استشهاد، أو انتحار، كما تصفهم تلك التقارير. ولأجل ذلك الغرض أُنشئت مؤسسات صهيونية هدفها دراسة وتحليل مضامين تلك المناهج مثل “معهد رصد السلام والتسامح الثقافي في التعليم المدرسي”، أو الإيعاز لبعض المؤسسات القائمة مثل معهد جورج إيكريت لبحوث الكتب المدرسيّة Georg Eckert Institute بالعمل على المنهاج الفلسطينية.[43]

تُحدِثُ التقارير والدراسات التي تصدر عن تلك المؤسسات صدىً واسعاً، فهي وُجدت لتؤثر وتضغط ومن ثم يسترشد بها في التطبيق، ولا أدلّ على ذلك من الضغوطات المستمرة من قبل الاتحاد الأوروبي على السلطة الفلسطينية لتعديل مناهجها مقابل استمرارها في التمويل، ولأول مرة يصدر قرار أوروبي يزعم بوجود معاداة للسامية في الكتب الفلسطينية، ويطالب بإزالتها، ويربط بين التحريض في الكتب المدرسية والزيادة الأخيرة في الهجمات الفلسطينية المسلحة من قبل طلاب المدارس، وهو ما لم تذكره القرارات السابقة التي تمّ تبنيها، واكتفت بالدعوة مباشرة إلى إزالة المحتوى الإشكالي، وتلبية قيم الأمم المتحدة فيها، وتكرر صياغة القرار الأوروبي بوقف التمويل عن السلطة في كانون الأول/ ديسمبر إذا لم يتم تغيير كتبها المدرسية وفقاً للمعايير الدولية للسلام والتسامح وإزالة الكراهية، وقد صدر القرار بأغلبية 451 مؤيداً. القرار الأوروبي استند إلى دراسات وتوصيات قدمها “معهد رصد السلام والتسامح
الثقافي في التعليم المدرسي”، الذي يبحث ويحلِّل محتويات الكتب المدرسية الفلسطينية.[44]

رابعاً: الموقف الفلسطيني من تحريف المناهج في القدس:

إن تصاعد اليمين الإسرائيلي وسعيه المحموم نحو تحويل القدس عملياً إلى عاصمة “دولة إسرائيل” الموحدة، وفرض أمر واقع داخل المسجد الأقصى لصالح المتطرفين اليهود، يقابله حالة انكشاف عربي غير مسبوقة تتصدرها موجة تطبيع خليجية، ليس على المستوى السياسي فقط بل ومحاولة نقلها إلى المستوى الشعبي؛ عبر التطبيع الإعلامي، ومراجعة المناهج الدراسية في تلك الدول وفق رؤية جديدة تتناسب مع حالة التطبيع مع “إسرائيل”، ويضاف إليه وضع داخلي فلسطيني مترهل ومتأزم في ظلّ الانقسام والعجز المالي المستمر للسلطة. وقد أنتجت هذه الحالة المركبة نوع من التسليم الغير علني للسلطة فيما يخصّ شؤون القدس، وإن يحاجج البعض بأن هذا ليس جديداً على السلطة التي وافقت منذ أوسلو على تأجيل وضع القدس مع قضايا الحل النهائي، ولم يكن لها أي وجود إداري أو تمثيلي في القدس، فإن جديدها اليوم هو حالة الصمت الرهيبة التي ترافق كل ما يتعلق بأسرلة القدس لا سيّما التعليم منها.

ففي التقرير الذي نشره معهد القدس لبحث السياسات Jerusalem Institute for Policy Research الإسرائيلي أشار إلى أنه ابتداءً من النصف الثاني من سنة 2018 حدث انخفاض في حجم البيانات والمنشورات المنظمة التي كانت تقودها السلطة الفلسطينية ضدّ البرنامج الإسرائيلي.[46] وهذا ما يؤكده تراجع الإصدرات الكتابية التي كانت تنجزها وحدة شؤون القدس التابعة لوزارة التربية والتعليم في رام الله، إذ لم يصدر عنها أي تقارير منذ ثلاث سنوات، وكانت طبيعة تلك التقارير إحصائية حول تعداد الطلبة والاعتداءات التي يتعرضون لها على يد قوات الاحتلال، وتقارير إحصائية حول التحريفات التي تُجرى على المناهج الفلسطينية في القدس وطبيعة تلك التحريفات، وتلك التقارير على عِلاتها؛ بكونها كانت توسم بالتكرار المطلق، يعني بالكاد يتمّ تغيير بعض الأرقام والإحصائيات،[47] ثم إن بعض البنود فيها هي مجرد نسخ ولصق من مواقع إلكترونية دون التنويه إلى المصدر،[48] ولكن بالرغم من ذلك كانت تُشكّل مصدر معلومات للباحثين والمعنين في الشأن المقدسي. كما توقفت أيضاً المؤتمرات الصحفية التي كانت تعقدها وزارة التربية والتعليم الفلسطينية للتنويه لخطورة التحريفات التي تُجرى على المناهج، وكانت تبرز على الأقل حالة الرفض الرسمي لما يجري في القدس وتؤازر ولو معنوياً المشهد المقدسي. وكما أن السلطة عادة ما تركب الموجة، ففي العام الدراسي الماضي حين وقف المجتمع المقدسي في وجه الاحتلال بعد أن بعث بتهديداته لأكبر مدرستيْن خاصتيْن في القدس، وهما الإبراهيمية والإيمان، وحدث إضراب شمل ما يقارب 150 مدرسة، خرجت السلطة لتؤيد الإضراب، وتعلن أنها سترفع دعوى قضائية على الاحتلال بدعوى تحريف مناهجها، ولكن أين هذه الدعوى؟ وفي هذا العام نفّذ الاحتلال ما أراد، ووُزع المنهاج المحرف في كلتا المدرستين ولم نسمع أي تصريح للسلطة.

كما أن غياب أي دور فاعل لمديرية التربية والتعليم في القدس أثّر على تعداد الطلبة الملتحقين بمدارس الأوقاف وجعله في انخفاض مستمر، وبدل أن تراجع التربية سياساتها وتُحسّن من مدارسها بعثت بكتاب في بداية العام الدراسي 2024/2023 إلى مدارس الأوقاف، وكان مضمونه أن ألقت فيه مسؤولية فقدان 700 طالب في هذا العام الدراسي على الإضرابات التي قام بها المعلمين في كل مناطق السلطة، ومن ضمنهم المعلمين العاملين في مدارس الأوقاف في القدس، احتجاجاً على عدم استلام رواتبهم كاملة. وفي حديث مع المعلمة “نور. أ.” وهي تعمل في إحدى مدارس الأوقاف قالت: بأنه في العام الماضي خلال الإضرابات كان هناك مبادره لدفع السلطة إلى عمل استثناء لمعلمين القدس، الذين يقارب عددهم الألف موظف وهم لا يشكِّلون نسبة كبيرة بالنسبة لمعلمي السلطة بشكل عام، غير أن السلطة لم تُلقي بالاً لخصوصية القدس وحساسية وضع منظومتها التعليمية فيها. وقد ساقت المعلمة مثالاً، قالت بأنه فُهم في سياق عدم رغبة السلطة بتطوير مدارسها في القدس، وتلك الحادثة حصلت بعد أن أجرى مدير مدرسة دار الأيتام الإسلامية اتفاق شراكة مع مؤسسة برج اللقلق 2023/2022، حصل فيها الطلبة على حقيبة مدرسية ومصروف شهري كما أُتيح لهم استخدام مرافق المؤسسة من ملاعب وغيرها، غير أن تلك المبادرة لم تحظَ باهتمام يُذكر من قبل التربية التي لم تعمل لها دعاية كافية، بل وقامت بنقل مدير المدرسة “م. ن.” من مدرسته إلى مدرسة أخرى في بيت حنينا، الأمر الذي فُهِم على أنه نقلٌ تعسفي ولا يشجع غيره من المدراء على عمل تحسينات.[49] وفي حديث مع عضوة اتحاد أولياء أمور مدارس الإيمان “أ. أ.”، قالت بأنه كان هناك اقتراح قُدّم لوزارة التربية والتعليم الفلسطينية بأن تتبنى المدارس الخاصة في القدس منهاج علمي بحت، لا يحمل أي هوية لا فلسطينية ولا إسرائيلية للخروج من الأزمة التي تُفتعل حول المناهج في كل عام دراسي، غير أن السلطة رفضت التعاون وأصرّت أن يقدم الطلاب المقدسيون في مرحلة التوجيهي المنهاج الفلسطيني الأصلي في الامتحانات، وهذا صعّب من الأمر وزاد من نسب تسرب الطلاب المقدسيين في المراحل الثانوية لمدارس المعارف وتقديم البجروت الإسرائيلي.[50]

وأمام الموقف المتخاذل للسلطة يبقى التعويل على الموقف الداخلي للمجتمع المقدسي، ممثلاً بثلاثة أركان رئيسة، وهي إدارات المدارس واتحادات أولياء أمور الطلبة وأولياء الأمور أنفسهم، فالتباين الذي تعيشه مدارس القدس اليوم فيما يخصّ المناهج المعمول بها مرتبط بشكل مباشر بإدارات المدارس واتحاد أولياء الأمور في كل مدرسة، فهناك بعض مدارس المعارف القديمة في جبل المكبر والعيسوية تتمتع بإدارات قوية ويدعمها اتحاد أولياء أمور قوي ما زالو متمسكين بتدريس المنهاج الفلسطيني الأصلي، وبالرغم من أنها مدارس معارف إلا أنها استطاعت الحفاظ على نفسها، وهذا ينطبق على غالبية المدارس المسيحية التي لم تستطع المعارف ثنيها عن رسالتها بسبب استقلالها المالي والدعم الذي تتلقاه من الكنس في القدس، أما باقي المدارس الخاصة فإنها في هذا العام الدراسي 2024/2023 تتخبط بين آخر رمق في المقاومة أو إعلان الاستسلام في ظلّ تبعيّتها المالية وتخلي السلطة التام عن دعمها مادياً ومعنوياً، فإدارات بعض المدارس مثل مدارس الحكمة مثلاً، سمحت للأهالي بالدخول وتوزيع المنهاج الأصلي وطلبت من الطلاب تجليد أول ثلاث صفحات من الكتب التي تُظهر شعار السلطة، بينما رفضت مدارس أخرى مثل مدارس الإيمان دخول الأهالي وتوزيع المنهاج بسبب التدقيق الشديد عليها من قبل المعارف والبلدية، ومدارس أخرى مثل الفرقان لم توزع أي من المنهاجيْن على الطلبة لمدة عاميْن واكتفت بتوزيع أوراق عمل على الطلاب لتنأى بنفسها عن الملاحقة والتضييق من الاحتلال، وفي الوقت نفسه تحافظ على ما تستطيعه من رسالتها الوطنية، بينما رضخت غالبية المدارس الخاصة الأخرى واعتمدت تدريس المنهاج المحرف مبررة بأن المعلم سيحاول قدر استطاعته أن يتعامل مع المقرر وفق ما يمليه عليه واجبه الوطني.[51]

بينما ظلّت لجنة أولياء أمور طلاب شرقي القدس التي أُسست سنة 2006 تلعب دوراً مهماً في تحسين نوعية التعليم ومتابعة حقوق الطلاب، والعمل على إنهاء التمييز في الموارد من قبل السلطات الإسرائيلية للطلاب في شطري المدينة. لكنها نفسها لم تستطع أن تُلغي التمييز القائم بحقها، فبقيت بلا تمويل على الرغم من انتخابها من قبل أهالي الطلاب، وقد جرى تحويل الأموال التي تفرض على طلاب شرقي القدس لهذا الغرض إلى لجنة أولياء أمور غربي القدس، التي تعدّها السلطات الإسرائيلية اللجنة الرسمية التي تمثل القدس شرقها وغربها. كما تتعرض اللجنة لمحاولات متكررة لاحتوائها من قبل لجنة أولياء أمور غربي القدس، التي تتبنى سياسات مختلفة تتعارض أحياناً مع رغبة أهالي شرقي القدس ولجنة أوليائهم، خصوصاً فيما يتعلق بمحاولة فرض مناهج التعليم الإسرائيلية على المدارس الفلسطينية.[52] وللأسف فقد عانى الاتحاد في الفترة الأخيرة من حالة تشرذم وعدم فاعلية، إذ لم يستطع أن يوحّد مجالس لجان أولياء الأمور في المدارس؛ وهذا يعني غياب دوره المرجعي في اتخاذ قرار مركزي على الرغم من حساسية الفترة الحالية، وبقي الدور الحقيقي هو ما تقوم به مجالس أولياء أمور المدارس وقد كان دور بعضها هامشياً وضعيفاً، بينما لعبت مجالس أخرى أدواراً أكثر فاعلية،[53] وهناك دور مميز قام به مجلس أولياء أمور مدارس الإيمان بإصدار كتيّب بعنوان “التعليم الحرب الصامتة في القدس، مقارنة بن الكتب الفلسطينية والمحرفة لعام 2023-2022″، وهذا الكتيّب جهد رائع استغرق منهم تسعة أشهر، قام به أولياء أمور همّهم تبليغ رسالتهم وإقناع الأهالي بخطورة تلك المناهج عبر وضع الدلائل والبراهين بين أيديهم، وقد قدّموا هذا العمل والذي ليس من اختصاصهم ولا من مهمّاتهم ليملؤا الفراغ الذي تركته أجهزة التربية والتعليم الفلسطينية التي لم تصدر، كما سبق وذكرنا، أي دراسات أو تقارير بهذا الخصوص، وتكمن أهميته في أنه قدّم نصوصاً كثيرة من المناهج المحرفة التي يصعب على الباحثين الحصول عليها بسبب عدم وجود نسخ إلكترونية منها وصعوبة الوصول الجغرافي للقدس. غير أن اجواء الحرب الأخيرة رافقها الكثير من الترهيب على المقدسيين، مما حال دون نشر هذا الكتيب عبر مؤتمر صحفي، وطباعته خوفاً من الاعتقال والملاحقة. وفي مقابلة مع إسلام، عضو مجلس أولياء أمور في إحدى مدارس شرقي القدس، ذكرت أنه مؤخراً فُرض عليهم أن يترأس كل مجلس أولياء أمور في القدس مدير المدرسة نفسه، وبالتالي هذا حدّ من حرية المجلس في اتخاذ القرارات.[54]

وفي النهاية، يبقى القرار لولي الأمر في أن يختار لابنه المدرسة التي يرتضيها وإن كان الخيار اليوم محصوراً جداً، فـإن 90% من المدارس الخاصة أو الحكومية تتبنى إما المنهاج المحرف أو البجروت، إلا نسبة بسيطة لا ندري إلى متى ستصمد، وحتى 10% الباقية والتي هي مدارس أوقاف وأونروا تعاني مشاكل مركبة، وقدرتها الاستيعابية واللوجيستية لا تسمح لها بوضعها الحالي أن تكون في وضع تنافسيّ وخيار جيد للأهالي.

توصيات الدراسة:

• دعم المدارس الخاصة؛ حيث تستحوذ تلك المدارس على قرابة 33% من طلبة القدس، وتُعدُّ الهدف الرئيسي لكل الخطط الإسرائيلية الحالية، ويمكن تلخيص معظم مشاكلها بأنها مشاكل مالية. لذا فإننا نوصي بأن تهتم السلطة الفلسطينية إلى جانب مؤسسات المجتمع المدني بدعم تلك المدارس، والبحث عن داعمين وممولين سواء كانوا داخليين أم خارجيين، لتعزيز صمود تلك المدارس التي تحمي الهوية الفلسطينية في القدس عبر تبنيها للمنهاج الفلسطيني.

• إعطاء خصوصية لمدارس الأوقاف التابعة للسلطة الفلسطينية في شرقي القدس، واستثنائها من المشاكل التي تمس الجهاز التعليمي برمته في مناطق السلطة الفلسطينية، واعتبار حماية تلك المدارس وتعزيز صمود معلميها واجباً وطنياً ومعركة سيادة في القدس. وقد أسهمت الإضرابات المتكررة التي خاضها المعلمون الفلسطينيون ومن ضمنهم معلمي مدارس الأوقاف في القدس، احتجاجاً على سياسة خصم الرواتب إلى تناقص أعداد الطلبة في مدارس الأوقاف، وتسربهم في الغالب إلى مدارس البلدية التابعة للإدارة الإسرائيلية.

• العمل على تفعيل اتحاد مجلس أولياء الأمور في شرقي القدس بإجراء انتخابات قريبة، ودعمه مالياً ولوجستياً، والعمل على تفعيل دور مجالس أولياء الأمور في كافة المدارس لا سيّما مدارس البلدية، إذ يُعد هذا الطريق الأكثر فاعلية لتحصيل بعض المكاسب عبر استغلال القانون الإسرائيلي الذي يجعل من حقّ أولياء الأمور اختيار المنهاج الذي يناسب أطفالهم.

• تفعيل مواجهة تحريف المناهج، وإبراز خطورتها الحقيقية عبر المؤتمرات والفعاليات والاتصال بأولياء الأمور لإقناعهم بخطورة الأمر، وجعل القضية قضية رأي عام، ودعم المجهودات التي تقوم بها بعض مجالس أولياء الأمور، ومن أهمها الكتيِّب الذي أصدره مجلس أولياء أمور مدارس الإيمان بعنوان “التعليم الحرب الصامتة في القدس: مقارنة بين الكتب الفلسطينية والمحرفة لعام 2023/2022″، وعلى الرغم من أهمية هذا الكتيب فإنه لم يحظ بالاهتمام الذي يستحقه.

• تفعيل دور مؤسسات السلطة الخاصة بالقدس للتحرك في هذا المضمار، مثل وحدة شؤون القدس ومديرية القدس التابعتان لوزارة التربية والتعليم، بالإضافة لوزارة القدس، والعمل على إصدار تقارير دورية عن الحالة التعليمية في القدس، وتنظيم أرشيف ومكتبة تكون في خدمة الباحثين.

• رعاية نشاطات سواء إلكترونية أم واقعية، كالمخيمات الصيفية والمعارض وغيرها من الفعاليات التي يتم فيها كسر حصار الجغرافيا التي يريد الاحتلال الإسرائيلي فيها كسر وحدة الشعب الفلسطيني، عبر تحويله إلى كتل بشرية تُعرف بمنطقتها الجغرافية؛ مقدسي وضفاوي وغزاوي ومناطق الـ 48، بحيث تجمع تلك الفعاليات بين الطلبة المقدسيين وأقرانهم من باقي المناطق لتعزيز الهوية الفلسطينية عبر الأنشطة اللا منهجية.

زر الذهاب إلى الأعلى